فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ‏}‏ شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائناً على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ‏}‏ الخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي ‏{‏اطمأن بِهِ‏}‏ أي ثبت على ما كان عليه ظاهراً لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاطف ‏{‏وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ‏}‏ أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله ‏{‏انقلب على وَجْهِهِ‏}‏ أي مستولياً على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يميناً وشمالاً ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال، وهو معنى قوله في «الكشاف»‏:‏ طار على وجهه وجعله في «الكشف» كناية عن الهزيمة، وقيل هو ههنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن، وأياً ما كان فالمراد ارتد ورجع عن دينه إلى الكفر‏.‏

أخرج البخاري‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية‏:‏ كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال‏:‏ هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال‏:‏ هذا دين سوء، وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال‏:‏ أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أقلني فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن الإسلام لا يقال فقال‏:‏ لم أصب من ديني هذا خيراً ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية، وضعف هذا ابن حجر، وقيل‏:‏ نزلت في شيبة بن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروى ذلك عن ابن عباس، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين ‏{‏خَسِرَ الدنيا والاخرة‏}‏ جملة مستأنفة أو بدل من ‏{‏انقلب‏}‏ كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي أبي حيان، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما‏.‏

وقرأ مجاهد‏:‏ وحميد‏.‏ والأعرج‏.‏ وابن محيصن من طريق الزعفراني‏.‏ وقعنب‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن مقسم ‏{‏خاسر‏}‏ بزنة فاعل منصوباً على الحال لأن إضافته لفظية، وقرىء ‏{‏خاسر‏}‏ بالرفع على أنه فاعل ‏{‏فِتْنَةٌ انقلب‏}‏ وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه، وقيل‏:‏ إنه من التجريد ففيه مبالغة، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر، والجملة واردة على الذم والشتم ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الخسران، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون، وقيل أن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحاً ‏{‏هُوَ الخسران المبين‏}‏ أي الواضح كونه خسراناً لا غير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُواْ مِن دُونِ الله‏}‏ قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل ‏{‏انقلب‏}‏ وما تقدمه اعتراض، وأياً كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وإن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏.‏

والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ‏}‏ والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزاً عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جماداً ليس من شأنه الضر والنفع، ويلوح بكون المراد جماداً كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما ‏{‏ذلك‏}‏ أي الدعاء ‏{‏هُوَ الضلال البعيد‏}‏ عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ‏}‏ استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالاً بعيداً من إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة نفيه عنه بطريق التسبب أيضاً فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة‏:‏ يدعون عنترة الرماح كأنها *** أشطان بئر في لبان الأدهم

واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولاً له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ و‏{‏ضَرُّهُ أَقْرَبُ‏}‏ مبتدأ وخبر والجملة صلة له، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير‏}‏ جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر ‏{‏مِنْ‏}‏ أي يقول الكافر يوم القيامة يرفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثراً مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققاً من نفعه‏:‏ والله لبئس الذي يتخذ ناصراً ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه ما لا يخفى، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل، وهذ الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه‏.‏

وقد ذهب إليه أيضاً جار الله، وجوز أن يكون ‏{‏يَدْعُو‏}‏ هنا إعادة ليدعو السابق تأكيد له وتمهيداً لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هُوَ الضلال البعيد‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏ كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفعياً والله لبئس المولى الخ، ولا تناقض عليه أيضاً إذ الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخباراً من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به‏.‏ ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في قبيح حال الصنم والإمعان في ذمه‏.‏

واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي، وقال الأخفش‏:‏ إن ‏{‏يَدْعُو‏}‏ بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي، والجملة محية بالقول‏.‏

واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها‏.‏

وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم‏.‏ نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير‏}‏ أدل عليه، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه، وقيل‏:‏ ‏{‏يَدْعُو‏}‏ مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولاً مع اعتقاد‏.‏ واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق، والجملة في محل نصب بيدعو، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه‏.‏

وقال الفراء‏:‏ إن الالم دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو‏.‏ وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول، وقال ابن الحاجب‏:‏ قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله ‏{‏يَدْعُو‏}‏ من ضره بإسقاط اللام، وقيل‏:‏ ‏{‏يَدْعُو‏}‏ بمعنى يسمى ‏{‏وَمِنْ‏}‏ مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف أي إلهاً، ولا يخف عليك ما فيه، وقيل‏:‏ إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي، ونقل هذا عن الفارسي أيضاً، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقاً أن يكون موصولاً، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أومن، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي يدعوه، والجملة في موضع الحال والتقدير ‏{‏ذلك هُوَ الضلال البعيد‏}‏ مدعواً وفيه مع بعده أن ‏{‏يَدْعُو‏}‏ لا يقدر بمدعوا وإنما يقدر بداعياً والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول، وقيل‏:‏ ‏{‏يَدْعُو‏}‏ عطف على ‏{‏يدعو‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 12‏]‏ الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و‏{‏مِنْ‏}‏ مفعول ‏{‏يَدْعُو‏}‏ وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء، والمراد إما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه، وأما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى، وبالجملة أحسن الوجوه أولها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ استئناف لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وإنه تعالى يتفضل عليهم بالنعيم الدائم إثر بيان غاية سوء حال الكفرة‏.‏

وجملة ‏{‏تَجْرِى‏}‏ الخ صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهرة، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما في إرشاد العقل السليم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ تعليل لما قبله وتقرير بطريق التحقيق أي هو تعالى يفعله البتة كل ما يريده من الأفعال المتقنة اللاثقة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق برسوله صلى الله عليه وسلم وعقاب من كفر به وكذب برسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والاخرة‏}‏ الضمير في ‏{‏يَنصُرَهُ‏}‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى عن ابن عباس‏.‏ والكلبي‏.‏ ومقاتل‏.‏ والضحاك‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد‏.‏ والسدي‏.‏ واختاره الفراء‏.‏ والزجاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه يدلى بحجة ما ضرورية أو نظرية ضرورية أو نظرية أو سمعية ولما يؤل إليه أمره من النكال، وفي الآخرة بما هو أطم وأطم ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمم خسارهم في الدارين ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله عليه الصلاة والسلام، وبالغ في كونه منصوراً بما لا مزيد عليه، واختصر الكلام دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم العلم الذي لا يشتبه وأن الكلام فيه وله ومعه وأن ذكر غيره بتبعية ذكره، فالمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء دجرته وإدخال من صدقه جنات تجري من تحتها الأنهار والانتقام ممن كذبه وإذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارف ولا يعطفه عنه عاطف فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجهد كل حد معهود فقصارى أمره خيبة مساعيه وعقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله، وقد وضع مقام هذا الجزاء‏.‏

قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ‏}‏ الخ أي فليمدد حبلاً ‏{‏إِلَى السماء‏}‏ أي إلى سقف بيته كما أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن الضحاك ‏{‏ثُمَّ لْيَقْطَعْ‏}‏ أي ليختنق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قطع إذا اختنق كان أصله قطع نفسه بفتحتين أو أجله ثم ترك المفعول نسياً منسياً فصار بمعنى اختنق لازم خنق، وذكروا أن قطع النفس كناية عن الاختناق، وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ‏}‏ تقدير النظر وتصويره والا فبعد الاختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر، ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه، وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر، وأن يكون الكلام خارجاً مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيداً خارجة هذا المخرج، وقال جمع‏:‏ إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود، ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلاً إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة والسلام النازل من جهتها‏.‏

وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعاً، ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر نعم المعنى السابق هو الأولى، وأياً كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون له صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ أعراب من أسلم‏.‏ وغطفان تباطؤ عن الإسلام وقالوا‏:‏ نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة والسلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا، وقيل‏:‏ قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من النصر؛ والمعنى عليه وكذا على سابقه إن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضاً من استبطا نصر الله تعالى وطلبه عاجلاً فليقتل نفسه لأن له وقتاً اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره، وأنت تعلم بعد هذين القولين وإن ثانيهما أبعد‏.‏

واستظهر أبوحيان كون ضمير ينصره عائداً على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على مذكور، وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق، قال أبو عبيدة‏:‏ وقف علينا سائل من بني بكر فقال‏:‏ من ينصرني نصره الله تعالى وقالوا‏:‏ أرض منصورة أي ممطورة، وقال الفقعسي‏:‏ وإنك لا تعطي أمرأ فوق حقه *** ولا تملك الشيء الذي أنت ناصره

أي معطيه وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون‏.‏ فالمعنى أن الارزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقاً‏.‏ والغرض الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤمنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفاً في شأنهم‏.‏ ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الآية بما قبلها عليه قريباً، وقيل‏:‏ الضمير لمن والنصر على المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر‏.‏ ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء‏.‏

ومن كما أشرنا إليه شرطية، وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في محل نصب بينظر، وذكر أنه على إسقاط الخافض، وقرأ البصريون‏.‏ وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي مثل ذلك تلإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي القرآن الكريم كله ‏{‏ءايات بَيّنَاتٍ‏}‏ واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة، ويجوز أن يكون المراد إنزال الآيات السابقة‏.‏ وأياً كان ففيه أن القرآن الكريم في جميع أبوابه كامل البيان لا في أمر البعث وحده‏.‏ ونصب ‏{‏ءايات‏}‏ على الحال من الضمير المنصور، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ‏}‏ بتقدير اللام وهو متعلق بمحذوف يقدر مؤخراً إمفادة للحصر ازضافي أي ولأن الله تعالى يهدي به ابتداء أو يثبت على الهدي أو يزيد فيه من يريد هدايته أو ثباته أو زيادته فيها أنزله كذلك أو في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي الخ‏.‏

وجوز أن يكون معطوفاً على محل مفعول ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي وأنزلنا أن الله يهدي الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي بما ذكر من المنزل بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به ويدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً ‏{‏والذين هَادُواْ والصابئين‏}‏ هم على ما أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن قتادة قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى البقلة ويقرؤون الزبور، وفي «القاموس» هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار، وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم الحنفاء وكانوا يقولون‏:‏ إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأمره وأحكامه جل شأنه إلى متوسط روحاني لا جسماني‏.‏

ومدار مذاهبهم على التعصب للروحانيات وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها ولما لم يتيسر لهم التقرب إلى أعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات وصابئة الهند مفزعها الثواب، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولاتغني شيئاً، والفرقة الأولى هم عبدة الكوكب، والثانية هم عبدة الأصنام‏.‏ وقد أفحم إبراهيم عليه السلام كلتا الفرقتين وألزمهم الحجة‏.‏

وذكر في موضع آخر أن ظهورهم كان في أول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس، ولفظ الصابئة عربي من صبا كمنع وكرم صبأ وصبوأ خرج من دين إلى آخر ‏{‏والنصارى والمجوس‏}‏ هم على ما روي عن قتادة أيضاً قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، واقتصر بعضهم على وصفهم بعبادة الشمس والقمر، وآخرون على وصفهم بعبادة النيران‏.‏ وقيل‏:‏ هم قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح‏.‏ وقيل‏:‏ قوم أخذوا من دين النصارى شيئاً ومن دين اليهود شيئاً وهم قائلون بأن للعالم أصلين نوراً وظلمة‏.‏ وفي كتاب الملل والنحل ما يدل على أنهم طوائف وأنهم كانوا قبل اليهود والنصارى وأنهم يقولون بالشرائع على خلاف الصابئة وأن لهم شبهة كتاب وأنهم يعظمون النار، وفيه أن بيوت النيران للمجوس كثيرة فأول بيت بناه افريدون بيت نار بطوس، وآخر بمدينة بخارى هو بردسون، واتخذ بهمن بيتاً بسجستان يدعى كركو، ولهم بيت نار ببخارى أيضاً يدعى قبادان‏.‏ وبيت نار يسمى كونشه بين فارس وأصفهان بناه كيخسرد‏.‏ وآخر بقومش يسمى جرير‏.‏ وبيت نار كيكدر بناه في مشرق الصين، وآخر بارجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسف، وكل هذه البيوت كانت قبل زرادشت‏.‏ ثم جدد زرادشت بيت نار بنيسا بعد كشتاسف أن تطلب النار التي كان يعظمها جم فوجدوها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دار ابجرد والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها وكيخسرد، ولما غزا افراسياب عظمها وسجد لها‏.‏ ويقال‏:‏ إن أنوشروان هو الذي نقلها إلى كارشان فتركوا بعضها هناك وحملوا بعضها إلى نسا‏.‏

وفي بلاد الروم على باب قسطنطينية بيت نار اتخذه شابوربن ازدشير فلم تزل كذلك إلى أيام المهدي‏.‏ وبيت نار باسفيثا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى‏.‏ وفي الهند والصين بيوت نيران أيضاً‏.‏ والمجوس إنما يعظمون النار لمعان‏.‏ منها أنها جوهر شريف علوي يظنون أن ذلك ينجيهم من عذاب نار يوم القيامة ولم يدروا أن ذلك السبب الأعظم لعذابهم اه‏.‏

وفيه ما لا يخفى على من راجع التواريخ‏.‏ وفي «القاموس» مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع ديناً ودعا إليه معرب ميخ كوش‏.‏ وفي «الصحاح» المجوسية نحلة والمجوسي نسبة إليها والجمع المجوس‏.‏ قال أبو علي النحوي‏:‏ المجوس واليهود إنما عرفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما لأنها معرفتان مؤنثان فجريا في كلامهم مجرى القبيلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف‏.‏ وأنشد‏:‏ أحار أريك برقاهب وهنا *** كنار مجوس يستعر استعارا

انتهى‏.‏ وذكر بعضهم أن مجوس معرب موكوش وأطلق على أولئك القوم لأنهم كانوا يرسلون شعور رؤوسهم إلى آذانهم‏.‏ ونقل في «البحر» أن الميم بدل من النون، وأطلق ذلك عليهم لاستعمالهم النجاسات وهو قول لا يعول عليه ‏{‏والذين أَشْرَكُواْ‏}‏ المشهور أنهم عبدة الأوثان، وقيل ما يعمهم وسائر من عبد مع الله تعالى إلهاً آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وأدخلت إن على كل واحد من جزئي الجملة لزيادة التأكيد كما في قول جرير‏:‏ إن الخليفة إن الله سربله *** سربال ملك به تزجى الخواتيم

وقيل‏:‏ خبر إن الأولى محذوف أي مفترقون يوم القيامة أو نحو ذلك مما يدل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ‏}‏ الخ فإن قولك‏:‏ إن زيداً إن عمراً يضربه ردىء، والبيت لا يتعين فيه جعل الجملة المقترنة بأن خبراً بل يجوز أن تكون معترضة والخبر جملة به تزجى الخواتيم، ولا يخفى عليك بعد تسليم الرداءة أن الآية ليست كالمثال المذكور لطول الفاصل فيها، قال في «البحر»‏:‏ وحسن دخول إن في الجملة الواقعة خبراً في الآية طول الفصل بالمعاطيف، وقال الزجاج‏:‏ زعم قوم أن قولك‏:‏ إن زيداً أنه قائم ردىء وأن هذه الآية إنما صلحت بتقدم الموصول ولا فرق بين الموصول وغيره في باب إن وليس بين البصريين خلاف في أن إن تدخل على كل مبتدأ وخبر فعلي هذا لا ينبغي العدول على الوجه المتبادر، والمراد بالفصل القضاء أي إنه تعالى يقضي بين المؤمنين والفرق الخمس المتفقة على الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما، وقيل‏:‏ المراد أنه تعالى يفصل بين الفرق الست في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاءً واحداً بلا تفاوت بل يجزي المؤمنين بما يليق واليهود بما يليق بهم وهكذا ولا يجمعهم في موطن واحد بل يجعل المؤمنين في الجنة وكلاً من الفرق الكافرة في طبقة من طبقات النار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ تعليل لما قبله من الفصل أي أنه تعالى عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه ‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ الخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الإشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة، وجوز أن يكون تنويراً لكونه تعالى شهيداً على كل شيء، وقيل‏:‏ هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف، والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك‏.‏ والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وإرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عز وجل، وظاهر كلام الآمدي أنه معنى حقيقي للسجود‏.‏ وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد‏.‏ وذلك ضربان سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات‏.‏ وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى‏.‏

وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به‏.‏ وقال ابن كمال‏:‏ إن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وضع الرأس، وقال العلامة الثاني‏:‏ حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجداً، وعلى هذين القولين على علاتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والانقياد لإرادته سبحانه‏.‏ وجوز أن يكون مجازاً عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته، ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الاختلاف‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيها بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما، ويكون قوله تعالى‏:‏

‏{‏والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب‏}‏ أفراداً لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في بادىء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها‏.‏ فالشمس عبدتها حمير‏.‏ والقمر عبدته كنانة‏.‏ وعبد الدبران من النجوم تميم‏.‏ والشعري لخم‏.‏ وقريش، والثريا طىء، وعطارداً أسد‏.‏ والمرزم ربيعة، وعبد أكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال‏.‏ وعبدت غطفان العزى وهي سمرة واجدة السمر شجر معروف، ومن الناس من عبد البقر‏.‏ وقرأ الزهري‏.‏ وابن وثاب ‏{‏الدواب‏}‏ بتخفيف الباء‏.‏ وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري، وقال‏:‏ لا أعلم من خففها سواه وهو قليل ضعيف قياساً وسماعاً لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ مّنَ الناس‏}‏ قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس يجود الطاعة المعروف‏.‏ واعترض بأنه صرح في «المغني» بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقه لفظاً ومعنى أو معنى لا لفظاً فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف‏.‏ وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدرة قد يكون لازماً للمذكور نحو زيداً ضربت غلامه أي أهنت زيداً ولا يكون مشتركاً كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظاً وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى، وعتطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه‏.‏

واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والجواب ما علمت، ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذٍ ذكر ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك، وما قيل‏:‏ إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب، وقال ابن كمال‏:‏ تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض‏}‏ الآية بناءً على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الانقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الانقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلاً من التعليلين في معرض المنع، أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع، وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الانقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفياً كان أو تكوينياً على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق العطن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى‏.‏ وفيه القول بجواز العطف على كلا معنى السجود وضع الرأس والانقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني، ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقاً وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الانقياد على ما ذكره، وقد أخذ رحمه الله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى، وما زعم أنه من ضيق العطن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون ‏{‏مِنَ الناس‏}‏ صفة ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ وأورد أنه حينئذٍ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيراً من الجن متصف به أيضاً، وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح‏.‏

نعم يمكن أن يقال‏:‏ إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان، والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء‏.‏ ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن يسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا‏:‏ المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس، وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس‏.‏ وتعقب بأن الخطاب في ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقاً بالنسبة إليه‏.‏ ورد بأن مراد المجيب أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائناً من كان ظهور دخول الأشياء المذكورة أولاً تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر‏.‏

وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى، والأولى أن يقال‏:‏ تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيراً من الجن كذلك للتنويه بهم، ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل، وقيل‏:‏ إن ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين؛ والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود، وجوز أن يكون ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ مبتدأ و‏{‏مِنَ الناس‏}‏ خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون، وقال الراغب‏:‏ قد يذكر الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزاً، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدأ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديراً ولأن كلاً من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي، وأن يكون ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ مبتدأ و‏{‏مِنَ الناس‏}‏ صفته وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ‏}‏ معطوف عليه وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حَقَّ عَلَيْهِ العذاب‏}‏ أي ثبت وتقرر خبر، ويكون الكلام على حد قولك‏:‏ عندي ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس، وهذان الوجهان بعيدان، وقال في «البحر»‏:‏ ضعيفان‏.‏

والظاهر أن ‏{‏كَثِيرٍ‏}‏ الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من الناس ولا يسجد كثير منهم، ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة، ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوى دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه، وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الجن خلاف الظاهر جداً‏.‏

وجوز أن يكون معطوفاً على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة ‏{‏حَقّ‏}‏ الخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب و‏{‏مِنَ الناس‏}‏ صفة له أيضاً، ولا يخفى ما فيه، وقرىء ‏{‏حَقّ‏}‏ بضم الحاء و‏{‏حَقّاً‏}‏ أي حق عليه العذاب حقاً فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة ‏{‏وَمَن يُهِنِ الله‏}‏ بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر، ومن مفعول مقدر ليهن ‏{‏فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ‏}‏ يكرمه بالسعادة‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏مُّكْرِمٍ‏}‏ بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في «القاموس» أي مما له إكرام، وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه، وقيل يجوز أن يكون باقياً على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول، والمعنى ما له من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة‏.‏ ولا يخفى بعده ‏{‏إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة، وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏هذان خَصْمَانِ اختصموا فِى رَبّهِمْ‏}‏ تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعطاء بن أبي رباح‏.‏ والحسن‏.‏ وعاصم‏.‏ والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم، ولما كان كل خصم فريقاً يجمع طائفة جاء ‏{‏اختصموا‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏

وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏اختصما‏}‏ مراعاة للفظ ‏{‏هذان خَصْمَانِ‏}‏ وهو تثنية خصم؛ وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد المذكر وغيره، قال أبو البقاء‏:‏ وأكثر الاستعمال توحيده فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء، وعن الكسائي أنه قرأ ‏{‏خَصْمَانِ‏}‏ بكسر الخاء، ومعنى اختصامهم في ربهم اختصامهم في شأنه عز شأنه، وقيل في دينه، وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤونه تعالى واعتقاد كل من الفريقين حقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أفواله وأفعاله عليه يكفي في تحقق خصومته للفريق الآخر ولا يتوقف عن التحاور‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ تخاصمت المؤمنون واليهود فقالت اليهود‏:‏ نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتاباً ونبياً قبل نبيكم، وقال المؤمنون‏:‏ نحن أحق بالله تعالى آمناً بمحمد صلى الله عليه وسلم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً فنزلت‏.‏

وأخرج جماعة عن قتادة نحو ذلك‏.‏ واعترض بأن الخصام على هذا ليس في الله تعالى بل في أيهما أقرب منه عز شأنه، وأجيب بأنه يستلزم ذلك وهو كما ترى‏.‏ وقيل عليه أيضاً‏:‏ أن تخصيص اليهود خلاف مساق الكلام في هذا المقام‏.‏ وفي «الكشف» قالوا‏:‏ إن هذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس من أن الآية ترجع إلى أهل الأديان الستة في التحقيق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏.‏

وأخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية ‏{‏هذان خَصْمَانِ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 14‏]‏ نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر هم حمزة بن عبد المطلب‏.‏ وعبيدة بن الحرث‏.‏ وعلي بن أبي طالب‏.‏ وعتبة‏.‏ وشيبة ابنا ربيعة‏.‏ والوليد بن عتبة، وأنت تعلم أن هذا الاختصام ليس اختصاماً في الله تعالى بل منشؤه ذلك فتأمل ولا تغفل‏.‏

وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو ينتطح فيه كبشان، وفي الكلام كما قال غير واحد تقسيم وجمع وتفريق فالتقسيم ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ إلى قَوْلُهُ تَعَالَى والذين أَشْرَكُواْ‏}‏ والجمع ‏{‏إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏

‏{‏هذان خَصْمَانِ اختصموا فِى رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 17 19‏]‏ والتفريق في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فالذين كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ‏}‏ الخ أعد أعد لهم ذلك، وكأنه شبه أعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثتهم ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا ثياب حقيقة، وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم وكون بعضها فوق بعض‏.‏

وجوز أن يكون ذلك لمقابلة الجمع بالجمع والأول أبلغ، وعبر بالماضي لأن الإعداد قد وقع فليس من التعبير بالماضي لتحققه كما في ‏{‏نُفِخَ فِى الصور‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وأخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب وليس شيء حمي في النار أشد حرارة منه فليست الثياب من نفس النار بل من شيء يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أقبحها كسوة‏.‏ ولذا قال وهب‏:‏ يكسى أهل النار والعرى خير لهم‏.‏ وقرأ الزعفراني في اختياره ‏{‏قُطّعَتْ‏}‏ بالتخفيف والتشديد أبلغ‏.‏

‏{‏يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الحميم‏}‏ أي الماء الحار الذي انتهت حرارته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو سقط من الحميم نقطة على جبال الدنيا لإذابتها، وفسره ابن جبير بالنحاس المذاب، والمشهور التفسير السابق، ولعله إنما جىء بمن ليؤذن بشدة الوقوع؛ والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو في موضع الحال المقدرة من ضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏يُصْهَرُ بِهِ‏}‏ أي يذاب ‏{‏مَا فِى بُطُونِهِمْ‏}‏ من الأمعاء والأحشاء‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد‏.‏ وجماعة عن أبي هريرة أنه تلا هذه الآية فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق إلى قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان ‏"‏‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وفرقة ‏{‏يُصْهَرُ‏}‏ بفتح الصاد وتشديد الهاء، والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجلود‏}‏ عطف على ‏{‏مَا‏}‏ وتأخيره عنه قيل إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغاية شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع أن ملابستها على العكس، وقيل إن التأثير في الظاهر غني عن البيان وإنما ذكر للإشارة إلى تساويهما ولذا قدم الباطن لأن المقصود الأهم، وقيل التقدير ويحرق الجلود لأن الجلود لا تذاب وإنما تجتمع على النار وتنكمش، وفي «البحر» أن هذا من باب‏:‏ علفتها تبناً وماءً بارداً *** وقال بعضهم‏:‏ لا حاجة إلى التزام ذلك فإن أحوال تلك النشأة أمر آخر، وقيل ‏{‏يُصْهَرُ‏}‏ بمعنى ينضج، وأنشد‏:‏ تصهره الشمس ولا ينهصر *** وحينئذٍ لا كلام في نسبته إلى الجلود، والجملة حال من ‏{‏الحميم‏}‏ أو مستأنفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ أي للكفرة، وكون الضمير للزبانية بعيد، واللام للاستحقاق أو للفائدة تهكماً بهم، وقيل للأجل، والكلام على حذف مضاف أي لتعذيبهم، وقيل بمعنى على كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمُ اللعنة‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 52‏]‏ أي وعليهم‏.‏

‏{‏مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ‏}‏ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف‏.‏ وفي «مجمع البيان» هي مدقة الرأس من قمعه قمعاً إذا ردعه، وفسرها الضحاك‏.‏ وجماعة بالمطارق، وبعضهم بالسياط‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا‏}‏ أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم فإذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً، فالإرادة مجاز عن الإشراف والقرب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 77‏]‏ وجعل بعضهم ضمير ‏{‏مِنْهَا‏}‏ للثياب وهو ركيك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ غَمّ‏}‏ بدل اشتمال من ضمير ‏{‏مِنْهَا‏}‏ بإعادة الجار والرابط محذوف والتنكير للتفخيم، والمراد من غم عظيم من غمومها أو مفعول له للخروج أي كلما أرادوا الخروج منها لأجل غم عظيم يلحقنهم من عذابها، والغم أخوالهم وهو معروف، وقال بعضهم‏:‏ هو هنا مصدر غممت الشيء أي غطيته أي كلما أرادوا أن يخرجوا من تغطية العذاب لهم أو مما يغطيهم من العذاب ‏{‏أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها من غير أن يخرجوا منها إذ لا خروج لهم كما هو المشهور من حالهم، واستدل له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏ وفي اختيار ‏{‏فِيهَا‏}‏ دون إليها إشعار بذلك، وقيل الإعادة مجاز عن الإبقاء، وقيل التقدير كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا أعيدوا فيها فالإعادة معلقة على الخروج وحذف للإشعار بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة ويجوز أن يحصل لهم، والمراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بخارجين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 167‏]‏ نفي الاستمرار أي لا يستمرون على الخروج لا استمرار النفي، وكثيراً ما يعدى العود بفي لمجرد الدلالة على التمكن والاستقرار، وقال بعضهم‏:‏ إن الخروج ليس من النار وإنما هو من الأماكن المعدة لتعذيبهم فيها، والمعنى كلما أراد أحدهم أن يخرج من مكانه المعد له في النار إلى مكان آخر منها فخرج منه أعيد فيه وهو كما ترى، وهذه الإعادة على ما قيل بضرب الزبانية إياهم بالمقامع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذُوقُواْ‏}‏ على تقدير قول معطوف على ‏{‏أُعِيدُواْ‏}‏ أي وقيل لهم ذوقوا ‏{‏عَذَابَ الحريق‏}‏ قد مر الكلام فيه، والأمر للإهانة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ بيان لحسن حال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة، وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للاستئناف إيذاناً بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهاراً لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا‏}‏ بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلى أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ قيل متعلق بيحلون، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل، وقيل‏:‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حلياً أو شيئاً من أساور، وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول، وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب و‏{‏أَسَاوِرَ‏}‏ مفعول ‏{‏يُحَلَّوْنَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن ذَهَبٍ‏}‏ صفة لأساور، و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان، وقيل‏:‏ لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب، وقيل‏:‏ للتبعيض وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله، وقرىء ‏{‏يُحَلَّوْنَ‏}‏ بضم الياء والتخفيف، وهو على ما في «البحر» بمعنى المشدد، ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق به ومن ابتدائية‏.‏

وقرأ ابن عباس ‏{‏يُحَلَّوْنَ‏}‏ بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها، وقال أبو حيان‏:‏ إذا صارت ذات حلى، وقال أبو الفضل الرازي‏:‏ يجوز أن يكون من حلى بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذٍ زائدة، والمعنى يستحسنون فيها الأساورة، وقيل‏:‏ هذا الفعل لازم ومن سببية، والمعنى يحلى بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب‏.‏

وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به، ومنه قولهم‏:‏ لم يحل فلان بطائل، ومن حينئذٍ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏مِنْ‏}‏ بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجوداً فمنع الصرف، وقد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ عطف على محل ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ أو على الموصوف المحذوف، وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤاً أو نحو ذلك‏.‏

وقرأ أكثر السبعة‏.‏ والحسن في رواية‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ وأهل مكة ‏{‏ولؤلؤ‏}‏ بالخفض عطفاً على ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ أو على ‏{‏ذَهَبَ‏}‏ لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا خصراً وأكثر ما يكون من المرجان‏.‏

واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري‏:‏ نعم، وقال الأصمعي‏:‏ لا، وروى يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واواً، وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك‏.‏

وقرأ الفياض ‏{‏لولياً‏}‏ قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واواً قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واوه قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏وليلياً‏}‏ بقلب الهززتين واوين ثم قلبهما ياءين، أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللاتباع‏.‏ وقرأ طلحة ‏{‏ولول‏}‏ كادل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض ‏{‏وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريراً للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصوداً بالذات‏.‏ ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام، ولم يرتض ما قيل‏:‏ إن التغيير للدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل، وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُحَلَّوْنَ‏}‏ ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة، وقيل هو باعتبار الأغلب لما أخرج النسائي‏.‏ وابن حبان‏.‏ وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً‏.‏

والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثنى مجمع عليها وانه يكفر من استحل ذلك غير متأول، ولعل خبر البيهقي في سننه‏.‏ وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة» إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرماً بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأول أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقاً الجنة مشكل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول‏}‏ وهو قولهم‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ كما روي عن ابن عباس، وقيل‏:‏ ما يعمه وسائر ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضاً لبعض، وقيل‏:‏ إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله، وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله، وزاد ابن زيد والله أكبر، وعن السدى هو القرآن، وحكى الماوردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل‏:‏ ما يعم ذلك وسائر الأذكار ‏{‏وَهُدُواْ إلى صراط الحميد‏}‏ أي المحمود جداً، وإضافة ‏{‏صراط‏}‏ إليه قيل بيانية‏.‏ والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته، وقيل‏:‏ الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل‏:‏ ‏{‏الحميد‏}‏ هو الجنة والإضافة على ظاهرها، والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة، واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز وجل المستحق لذاه لغاية الحمد‏.‏ والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف‏.‏ وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا‏.‏ وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه، وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة‏.‏

ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الأولى تارة بانه لرعاية الفواصل‏.‏ وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال‏:‏ إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض‏.‏ وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضاً من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما هو أعم من ذلك‏.‏ فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال‏.‏ وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال‏.‏ وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضاً في الأقوال والأفعال إيماءاً إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنغصتين للذة الاجتماع‏.‏ ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن‏.‏ والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34، 35‏]‏ لقوله تعالى‏:‏ في سورة فاطر بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 33، 34‏]‏ الخ والقرآن يفسر بعضه بعضاً‏.‏ وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مام يحمد سلوكه في المعاشرة والاجتماع في هاتيك البقاع فراراً من شائبة التأكيد كما لا يخفى على ذي فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام‏}‏ وعيد لصنف من الكفرة، وحسن عطف المضارع على الماضي لما أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم‏:‏ فلان يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان، وقيل‏:‏ ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضاراً للصورة الماصية تهويلاً لأمر الصد، وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ أي وهم يصدون، وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الاسمية معنى وخبر إن محذوف لدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب اليم، وقدره الزمخشري بعد ‏{‏المسجد الحرام‏}‏ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو ‏{‏المسجد‏}‏ والموصوف وهو ‏{‏الذى‏}‏‏.‏

وأجيب باحتمال أنه جعل ‏{‏الذى‏}‏ نعتاً مقطوعاً، وقدره ابن عطية بعد ‏{‏والباد‏}‏ وهو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم الخ أولى منه، وقيل الواو في ‏{‏وَيَصُدُّونَ‏}‏ زائدة والجملة بعده خبران‏.‏

وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجوزا زيادتها قول كوفي مرغوب عنه، والظاهر أن دالمسجد‏}‏ عطف على ‏{‏‏}‏ عطف على ‏{‏سَبِيلٍ‏}‏ وجوز أن يكون معطوفاً على الاسم الجليل، والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان حرماً بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل، والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، ويدل على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى جعلناه لِلنَّاسِ‏}‏ أن كائناً من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي ‏{‏سَوَاء العاكف فِيهِ والباد‏}‏ أي المقيم فيه والطارىء فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع على الصادين عنه، وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والباد، وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة، فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ «مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها» وذكر ابن سابط أن دور أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرت السرقة فاتخذ رجل بابا فانكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وأخرج ابن ماجه‏.‏

وابن أبي شيبة عن علقمة بن نضلة قال‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل ناراً في بطنه لأن الناس في الانتفاع بها سواء، وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعاً‏.‏ وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال‏:‏ لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضاً وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى‏.‏ وفي تنوير الأبصار وشرحه الدرر المختار وجار بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتي عيني‏.‏ وفي البراهن في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل‏.‏ وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها واجارتها لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها، وفي آخر الفصل الخامس من التاتار خانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة‏:‏ أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم؛ وكان يفتي لهم أن بنزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء العاكف فِيهِ والباد‏}‏ ورخص فيها في غير أيام الموسم؛ وكان يفتي لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء العاكف فِيهِ والباد‏}‏ ورخص فيها في غير أيام الموسى انتهى فليحفظ، قلت‏:‏ وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى‏.‏

والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجارة بيوتها أيام الموسم مما لم يتفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب ازمام الكرخي ما نصه وروي هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره، وكذا قال أبو يوسف، وقال هشام‏:‏ أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم ان ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو قول محمد انتهى‏.‏

والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات‏.‏ كتب ساداتنا الحنفية ان جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف باذن المتولى، ولا يقال‏:‏ إنه بناء غاصب كمن بنى بيتاً في جامع لظهور الاذن هنا دونه ثمة، وكذا كراهة الإجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الأمامين جائز بلا كراهة قولاً واحداً وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتي به الجواز، وسمتند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية‏.‏ وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر، وكذلك المساواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا ان الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق‏.‏

والاستدراك بأن له مدخلاً على سبيل الادماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته، وقد فسر ‏{‏سَوَآء‏}‏ بما فسر كذا في الكشف، وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي‏.‏ واسحق بن راهويه الحنظلي وكان اسحق لا يرخص في كراه دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين أُخْرِجُواْ مِن ديارهم بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏ فاصيفت الديار إلى مالكيها وقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «مكن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دارء السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال اسحق‏:‏ فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي، وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضى بالثمن من أنفق ما لا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذكل ما ليس لغيره‏.‏ وتعقب بأن الاستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه، ولذا قال ابن راهويه‏:‏ وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال‏.‏

والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعند من ثال بمثل قوله؛ ونصب ‏{‏سَوَآء‏}‏ على أنه مفعول ثان لجعلنا، والأول الضمير الغائب المتصل و‏{‏العاكف‏}‏ مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان في الأصل مصدراً، ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم، واللام ظرف لما عنده‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحاً للناس أو معبداً لهم و‏{‏سَوَآء‏}‏ حالا من الهاء وكذا يكون حالاً إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سَوَآء‏}‏ بالرفع على أنه خبر ‏{‏والعاكف‏}‏ مبتدأ، وضعف العكس لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال، وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس؛ وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي ‏{‏فِيهِ سَوَآء‏}‏ بالنصب ‏{‏العاكف‏}‏ فيه بالجر، ووجه النصب ما تقدم، ووجه جر ‏{‏العاكف‏}‏ أنه بدل تفصيل من الناس، وقيل‏:‏ هو عطف بيان‏.‏ وقرىء ‏{‏والبادي‏}‏ بإثبات الياء وصلا ووقفاً، وقرىء بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وقفاً ‏{‏والباد وَمَن يُرِدْ فِيهِ‏}‏ مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئاً ما أو مراداً ما، وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِإِلْحَادٍ‏}‏ أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية، وأصله إلحاد الحافر ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة، أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحداً بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام، وقال أبو عبيدة‏:‏ الباء زائدة و‏{‏إلحاد‏}‏ مفعول ‏{‏وَلَمْ يُرِدْ‏}‏ وأنشد عليه قول الأعشى‏:‏

ضمنت برزق عيالنا أرماحنا *** وأيد بقراءة الحسن ‏{‏وَمَن يُرِدِ إيمانهم بِظُلْمٍ‏}‏ وهي على معنى إلحاداً فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده، وقال أبو حيان‏:‏ الأولى أن يضمن «يرد» معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية‏.‏ وقرأت فرقة «يرد» بفتح الياء من الورود‏.‏ وحكاها الكسائي‏.‏ والفراء أي من أتى فيه بالحاد الخ، وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام، وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد، وقيل‏:‏ المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة، فقد أخرج عبد بن حميد أنه سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ‏}‏ الخ فقال‏:‏ ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء أعلاج من أهل البصرة إلى أعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك‏.‏ وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه، وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه، وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام، وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عن مجاهد قال‏:‏ كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال‏:‏ نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله بلى والله ‏{‏نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ جواب لمن الشرطية‏.‏ والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقاً فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود‏.‏ وعكرمة‏.‏ وأبي الحجاج، وقال الخفاجي‏:‏ الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضاً وإن قيل إنها ليست كبيرة، وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى، وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال‏:‏ تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات، وقال رحمه الله تعالى‏:‏ سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده‏.‏

والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة، وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده بسوء‏:‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية‏.‏ حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن ايما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال‏:‏ إنما يوفي استحلاله من قبل أهله، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً ما ينفعك في هذا المطلب، وحد بعضهم الحرم بقوله‏:‏

وللحرم التحديد من أرض طيبة *** ثلاثة أميال إذا رمت اتقانه

وسبعة أميال عراق وطائف *** وجدة عشر ثم تسع جعرانه

ومن يمن سبع بتقديم سينه *** وقد كملت فاشكر لربك إحسانه

وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون حده ما ذكر‏.‏ وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال‏:‏ إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جياد، وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلثمائة ذراع‏.‏ وحكى أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دوراً فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جداراً قصيراً دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه، ثم لما استخلف عثمان اشترى دوراً أيضاً ووسع بها وبنى المسجد والأروقة، ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته، ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار، ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزيد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام، ثم إن المنصور زاد في شقة الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام، ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دوراً وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي‏.‏

وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي، ثم لما انتهى الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهداً في خدمته والسعي في مرمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت‏}‏ أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة ويقال بوأه منزلاً إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية، و‏{‏مَّكَانَ‏}‏ مفعول به‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ المعنى بينا له مكان البيت ليبنيه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه، والأول مروى عن ابن عباس، وقيل‏:‏ اللام زائدة في المفعول به و‏{‏مَّكَانَ‏}‏ ظرف لبوأنا‏.‏ واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعاً وشيء منهما غير متحقق هنا وأن ‏{‏مَكَانَ البيت‏}‏ ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي، وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية، وقيل‏:‏ مفعول ‏{‏بَوَّأْنَا‏}‏ محذوف أي بوأنا الناس واللام في دلإبراهيم‏}‏ لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له، والمعول عليه ما قدمنا، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول وللعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل نم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر، ويعبر عن مكان الشيء ببيته، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة، وقد بنيت خمس مرات، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام‏.‏ روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبنى فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه، والثالثة بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج فقضي بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلى الله عليه وسلم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة، والرابعة بناء عبد الله بن الزبير، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعاً والأصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون‏:‏ وأما طولها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعاً وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعاً، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابه، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبب بالصفائح من الفضة، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع، والميزاب في وسط جدار الحجر‏.‏

وعرض الملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع الاسبعا، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلاً للمتلزم أربعة أذرع وخمس أصابع، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي‏.‏ وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة، والباقي كان زر بالغنم سيدنا اسماعيل عليه السلام فادخلوه في الحجر، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعاً، وعرض جدار الحجر ذراعان، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعاً ومن خارجه أربعون ذراعاً وست أصابع، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حوالي الكعبة، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعاً واثنتا عشرة أصبعاً، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه، وأنا لنرجوا من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه، و‏{‏‏}‏ لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له، والمعول عليه ما قدمنا، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول وللعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل نم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر، ويعبر عن مكان الشيء ببيته، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة، وقد بنيت خمس مرات، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام‏.‏ روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبنى فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه، والثالثة بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي صلى الله عليه وسلم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج فقضي بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلى الله عليه وسلم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة، والرابعة بناء عبد الله بن الزبير، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعاً والأصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون‏:‏ وأما طولها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعاً وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعاً، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابه، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبب بالصفائح من الفضة، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع، والميزاب في وسط جدار الحجر‏.‏

وعرض الملتزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع الاسبعا، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلاً للمتلزم أربعة أذرع وخمس أصابع، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي‏.‏ وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة، والباقي كان زر بالغنم سيدنا اسماعيل عليه السلام فادخلوه في الحجر، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعاً، وعرض جدار الحجر ذراعان، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعاً ومن خارجه أربعون ذراعاً وست أصابع، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حوالي الكعبة، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعاً واثنتا عشرة أصبعاً، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه، وأنا لنرجوا من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه، و‏{‏ءانٍ‏}‏ في قوله تعالى ‏{‏أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً‏}‏ قيل مفسرة، والتفسير باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ، وقال ابن عطية‏:‏ مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه، فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى، وحينئذ لا تنصب لفظاً، وقول أبي حاتم‏:‏ لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئاً، والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام، ويؤيده قراءة عكرمة‏.‏ وأبى نهيك ‏{‏أَن لاَّ يُشْرِكْنَ‏}‏ بالياء التحتية؛ وقيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود‏}‏ المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى عنده، ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة على ما قيل‏:‏ فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم، ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع، ويجوز أن يكون ‏{‏القائمين‏}‏ بمعنى المقيمين و‏{‏الطائفين‏}‏ بعمنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولاً‏.‏